خاص شفقنا-بيروت-
لقد كانت حياة الإمام الحسن العسكري “ع” كسائر من سبقه من الأئمة الطاهرين مليئةً وذاخرةً بالعلوم والمعرفةِ والسعي للإصلاح في أمةٍ مبتلاة بحكامٍ قدّموا الدنيا على الآخرة، وعاثوا في الأرض ظلمًا وجورًا وفسادً، فكان سلام الله عليه في مقدمة المتصدين العاملين لدفع الظلم ونشر الدين المحمدي الأصيل بين الناس.
وبعد أن أدّى الإمام العسكري “ع” مسؤليته بشكل كامل تجاه دينه وأمّة جده “ص”، أعد نفسه للرحيل، فنعى نفسه قبل رحيله، والتحق بالرفيق الأعلى بعد أن اعتلّ عليه السلام في أوّل يوم من شهر ربيع الأول، ولم تزل العلة تزيد فيه والمرض يثقل عليه، حتى استشهد في الثامن من ذلك الشهر، وكانت شهادته بسمٍ اغتيل فيه من قبل المعتمد العباسي، الحاكم الظالم في زمن الإمام “ع”، الذي كان قد أزعجه تعظيم الأمة للإمام العسكري “ع” وتقديمهم له على جميع الهاشميين من علويين وعباسيين فأجمع رأيه على الفتك به.
وفي عصر الإمام “ع” أصبح للشيعة بنيان تنظيميّ وسياسيّ، وبات الشيعة الموالون للإمام “ع” منتشرون في بقاع عدّة من العالم، وأصبحوا أقوياء، وامتلكوا قدرة عالية على قيادة أنفسهم بأنفسهم، وفي هذا السياق قال القاضي في المحكمة الجعفرية السيد بشير مرتضى في حديثٍ خاص لوكالة “شفقنا” إنّه ” “لا بد من تبيان الحال والوضع والظروف والشخصية التي امتلكها الإمام الحسن “ع” والدور المتميز لإمامنا عليه السلام وفي إطار حركة الإمامة المستمرة من علي “ع” حتى الإمام العسكري “ع”، فهي حلقات متواصلة مترابطة، عاش كل إمام ظروفًا معينة وخاصة، وإن كان هناك ترابط في سياقٍ عام اختلف أحيانًا أو توافق أحيانًا أخرى، لكن في مجمل الأحوال كان أئمتنا “ع” يؤدون دورًا متكاملًا، ويؤدون مهمةً عظيمةً وجليلة هي حفظ الإسلام وحفظ رسالة الإسلام ونشر رسالة الإسلام وصيانة الدين الحنيف كلٌ تبعًا للظروف التي عاشها”.
وأشار إلى أنّ “الإمام العسكري “ع” تولى المسؤولية وهو فذٌ من أفذاذ العقل البشري بما حاز من مواهب وبما امتلك من طاقاتٍ علميةٍ وثقافية، وهو بطلٌ من أبطال التاريخ بما مثله من صمودٍ أمام الأحداث بإرادةٍ صلبة بوجه الحكم العباسي المنحرف، فقد رفض ظلمهم وتمرد على أنظمتهم الفاسدة، وعمل وسعى إلى تحقيق الحق والعدل، ولا شك أن مُثل إمامنا “ع” كمُثل أبائه، فهم جميعًا قد اتحدوا في بلوغ أسمى وأعلى مراتب الفضائل والكمال”، لافتًا إلى أنّ “الأمة الإسلامية آنذاك كانت تقدر للإمام أبي محمدٍ “ع” دوره ومكانته وكانت تعظم هذا الدور وهذه المكانة، وهذه ليست خاصة بالإمام العسكري “ع” فلكل أئمتنا كانت مكانتهم وكان محلهم وكان دورهم محل احترام الأمة، رغم اختلاف الظروف من حالٍ إلى حال تبعًا لسياسة الحاكم الظالم، من الضغط أو من تخفيف هذا الضغط، تبعًا للظروف التي كان أيضًا يعيشها الحاكم في سبيل حفظ حكمه”.
وأردف السيد مرتضى “الأمة كانت تعظم إمامنا العسكري “ع” لأنّها وقفت على هدي هذا الإمام وصلاحه ومناقبه وخصاله، واستبان لهذه الأمة أنّه بقية الله في أرضه، وأنّه الممثل الوحيد للرسول الأعظم”ص”، ليس هذا فحسب بل لأنّه أيضًا قد تبنى القضايا الأساسية والمصيرية للعالم الإسلامي والأمة جمعاء، وأنه نادى بحقوق المسلمين وأنكر على الحكام ظلمهم واستهانتهم، ومن هنا اجتمعت الأمة على التعظيم والولاء له والاعتراف بأحقيته بالقيادة”.
وتابع: “ملوك بني العباس كانوا يرون هذا الأمر، وكانو يسمعون تعظيم الناس له، وأن جمهورًا كبيرًا من الأمة ذهب لإمامته بأنّه الأحق بالخلافة والإمامة، أي الأحق بها من بني العباس الذين ما تمتعوا ولا حازوا صفةً ولا موهبةً تؤهلهم لما هم فيه زورًا وظلمًا وطغيانًا، وكانوا يدركون أيضًا أن الأمة تتجه لهذا الإمام وتلتف حوله، لأنّه قد تبنى قضاياها، فالإمام لم يكن غريبًا عن هذه الأمة، فهم يعرفون أنّه من تلك الأسرة الطيبة الطاهرة، الأسرة النبوية التي أعزّ الله بها العرب والمسلمين، والتي تبنت قضايا الحق والعدل بين جميع الشعوب، وعملت على تهذيب السلوك الإنساني، وهؤلاء هم سلالة أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، والذين جعلهم الرسول الأعظم “ص” سفن النجاة وأمن العباد “، مؤكّدً أنّه “رغم كل الظروف ورغم كل الضغط والرقابة والعيون التي كانت مفتّحة من الحكام والظالمين على الإمام ودوره، تمكن أن يصنع في الأمة وأن يقدم لها هذا النموذج للإمامة التي تتحمل مسؤوليتها أمام الناس، ففي بيت الهداية وفي مركز الإمامة نشأ إمامنا “ع”، وهو بيت الطهر وبيت العزة والوعي، وبيت المسؤولية وبيت التحمل لكل هذه المهام العظيمة والكبيرة”.
وقال السيد مرتضى : “لو أن الطغاة فسحوا المجال لأئمتنا “ع” ولإمامنا العسكري “ع”، لملأوا الدنيا بعلومهم ومعارفهم، بل وشاهدت الإنسانية ألوانًا من العلوم والتطور الفكري الذي لم تعهده في جميع عصورها، لكن الظالمين من العباسيين ومن غير العباسيين الذين سبقوهم كانوا بالمرصاد واقفين دفاعًا عن حكمهم وظلمهم وطغيانهم بوجه هذه الإمامة وهذا الإمام، وبوجه هذا العلم وهذه الاستقامة منعًا لأئمتنا من أن يتحملوا مسؤوليتهم، وحرصًا من أولائك الطغاة على مواقعهم”، مشيرًا إلى أنّ “عصر إمامنا العسكري “ع” هو امتدادٌ لعصر والده الإمام الهادي “ع”، وفي كلا العصرين كان الظلم كبيرًا من العباسيين، وكان التبذير والبذخ كبيرًا وواسعًا على الملاهي والشهوات، وشهد ذاك العصر ضرائب باهظة وأساليب جباية مجحفة، فكان إمتدادً لعصر السالفين من الملوك والمستبدين الذين أسرفوا في هدر أموال الدولة على شهواتهم وعلى حاجاتهم الخاصة”.
ولفت إلى أنّ “الإمام العسكري “ع” قد عاش في ظل عدة ملوكٍ من العباسيين، فهو قد ولد سنة 232 هـ في عهد المتوكل، وكان أيضًا في عهد المنتصر بعد المتوكل، واستمر في عصر المستعين وكان ذلك سنة 248 هـ وفي عصر المستعين العباسي، وتحمل إمامنا “ع” مسؤوليته الكبرى مسؤولية الإمامة بعد والده الهادي “ع”، واستمر في عصر المعتز وعصر المهتدي، وصولًا إلى عصر المعتمد العباسي الذي كانت شهادة إمامنا العسكري “ع” في أيامه، في تلك الظروف القاهرة، إذ في عهد المعتمد العباسي لم يتمكن ذاك الطاغية من تحمل الإمام “ع” ودوره، كما لم يتحمل لقاءه بالناس ولقاء الناس به”.
التمهيد لإمامة الإمام المهدي “عج” وغيبته
البشر اعتادوا الإدراك والمعرفة الحسية، ومن الصعب التجاوز إلى تفكير أوسع إلا بمعونة الإمام، وكون نجل الإمام العسكري هو الإمام المهدي المنتظر “عج” فمهمة التمهيد لهذا النوع من الإمامة غير المسبوقة يحتاج إلى جهد وسعي، ومن هنا قال السيد مرتضى إنّ “إمامة إمامنا العسكري “ع” وعصره وعهده تميزت بأنّها كانت مرحلة تنتقل فيها الإمامة من الإمام الحاضر إلى إمامٍ يعد لمستقبل هذه الحياة كلها”، مشيرًا إلى أنّ “ما لقيه إمامنا العسكري “ع” من ضغوطٍ ومن ظروفٍ ومن خطوبٍ من الملوك والحكام العباسيين، فقد قضى حياته القصيرة بالمحن والخطوب وكانوا ينقلوه من سجن إلى سجن وضيقوا عليه اقتصاديًا وحجبوه عن لقاء شيعته ومنعوا عنه العلماء والفقهاء، فقد شغلهم الله بأحداثٍ جسامٍ كبيرة، ولذلك كان خوفهم الأكبر وحقدهم الأكبر على الإمام العسكري “ع” ومحاولات الحكام الظالمين المستمرة للقضاء عليه والقضاء على الموعود المنتظر، وكان هذا الهم يشغل بالهم، أي هم كيف يقضون على الإمام أبي محمد “ع”، لأنهم كانوا يعلمون من خلال الأحاديث ومن خلال ما زرع في قلوب الأمة ومن خلال الروايات الواردة ومن خلال المنتشر في ثقافة الأمة أنّ إمامًا موعودًا من صلب الإمام العسكري “ع” يغيب ويقوم ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا”.
وأردف: “كانوا خائفين من الإمام العسكري “ع” وخائفين من مولوده، لذلك كانوا قد ضيقوا عليه كثيرًا وحاولوا بكل أساليبهم القضاء عليه ومنعه من الاتصال بالناس، وهنا كانت عظمة هذا الإمام ودوره رغم كل تلك المحاولات وكل تلك الظروف وتلك الإرادات الجامحة من قبلهم، فتمكن إمامنا “ع” من التواصل مع الناس ومع أفراد الأمة المؤمنين الصادقين، ومع شيعته وشيعة آبائه، لأن ما لديه ليس مهمة حياته وإمامته في عصره فقط، بل إنّ هناك مسؤولية كبرى ومهمة عظيمة وهي تهيئة الأرضية للإمام المهدي الذي هو من صلبه”، مؤكّدًا أنّه “لذلك الله تعالى أراد أن يتم نوره ولو كره العباسيّون، ومن قبل لو كره الأمويون ولو كره كل الحاقدين وكل المبغضين، وقد نص إمامنا العسكري “ع” على إمامة الإمام المهدي “عج”، أمل البشرية المعذبة الرازحة تحت وطأة العبودية والقهر والاستغلال، وإمامنا المهدي “عج” هو الفاتح العظيم الذي سيتمكن من تحرير الإنسان وإنقاذ الأمم والشعوب”.
وتابع السيد مرتضى: “الإمام العسكري أطلع خيرة هذه الأمة والخلص على أنّ المهدي هو الإمام من بعده والمهدي وهو ابن الأعوام القليلة في عددها، فوردت أخبارٌ كثيرة في ذلك منها قول الإمام ” الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي، أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وآله خلقا وخلقا، ويحفظه الله تبارك وتعالى في غيبته، ثم يظهره فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما”، وأضاف:”قد مضى العسكري “ع” وقام المهدي”عج”، وهذا كان من أعظم ما عاناه إمامنا من المحن والخطوب، فكم حاولوا جاهدين اغتياله ولكن الله تعالى بقدرته وحكمته صرف أولائك عنه بما شغلهم من أحداثٍ جسام، فكان العباسيون خائفون من ولده الإمام المنتظر “ع” الذي بشر به النبي العظيم، وأخبر عنه غير مرةٍ أنّه أعظم مصلحٍ اجتماعي تشهده البشرية في جميع أدوارها، فهو الذي ينشر العدل السياسي والعدل الاجتماعي بل ويقضي على جميع ألوان الظلم والغبن ويحطم قوى البغي والطغيان “.
وأكّد السيد مرتضى أنّ “هناك نورٌ لله تعالى يجب أنّ يبقيه ويحفظه، ومسألة أنّ يكون إمامنا المهدي “عج” وهو إبن 5 أو 6 سنوات إمامًا يتحمل كامل مسؤولياته فيصلي هو على والده الإمام العسكري “ع”، وأن يكون له سفراء ويتواصل مع الأمة ،هذه بحد ذاتها هي معجزة”، لافتًا إلى أنّ تقبل الأمة لهذا الأمر “كان له علاقة بسياق حركة الإسلام من بداية عهد هذا الإسلام من أيام الرسول “ص” وهو يتحدث عن هذه النقطة، وأيام الإمام علي والحسن والحسين عليهم السلام يتحدثون عن هذه المسألة، فهم قد دخلوا في قلوب الأمة وزرعوا فيها من الوعي والمعرفة، والعلم والثقة والإيمان، فبات في الأمة من هو واثقٌ بدورهم وبدور الإمامة، وبأنّ هذه المرحلة من هذه الإمامة يجب أن تتحمل مسؤوليتها إلى قيام يوم الدين، وأنّ الإمام لو بقي ظاهرًا لقُتل كما قتل آبائه، لكن الله تعالى أراد أن يغيب هذا الإمام ويخفيه عن أعين الحاقدين والظالمين كي لا يتعرض إلى سوء”.
وأضاف:”استمر إمامنا المهدي “عج” بالتواصل مع الأمة في تلك الفترة من خلال السفراء، يبين لهم ويزودهم بالمعرفة والعلوم، إلى أن كانت الغيبة الكبرى، وهذه معجزة بحد ذاتها أعدها الله تعالى، وكان فيها مصلحة الإسلام وحفظ الدين”، وقال: “ها نحن في عصر غيبة الإمام “عج” أشد التصاقا به، وأشد إيمانًا به، وهو غائب عن أعين الناس لكنه حاضرٌ عند كل مفصل من مفاصل الحياة، هو يرى هذا الوجود ويطّلع على الأحداث ويراقبها ويراها من موقعه”.
وتابع:”عندما يظهر إمامنا الحجة “عج” لا يحتاج لتقارير من هنا وهناك تفيده بما حصل في الماضي وماذا حصل في الحياة وماذا حصل لدى المسلمين وماذا حصل في الوجود والتاريخ، لأنه مطّلعٌ على هذه الأحداث، فالنصوص في إمامنا المهدي “عج” والعقيدة بإمامنا “عج” هي مسألة من مسائل الدين الصريحة، فهو أمل الإسلام، بل أمل البشرية المعذبة، وهو من يخلصها وينقذها من الظلم والقهر، وهو من يثأر من أجل الحق وكرامة الإنسانية، وهو الذي يهدي ويصلح، وهو الذي يسيطر على كل هذا الواقع وينتقم من الظالمين”.
وختم السيد مرتضى:”نحن نمتلك كامل الثقة، ونحن والشعوب والناس من قبلنا كانت على تواصل مع أئمتها وتواصل مع سيرة نبيها وتواصل مع الأحداث الكبرى، فاقتضت إرادة الله أن يغيب هذا الإمام وهو في غيبته حاضرٌ بيننا ومنتظرٌ قدومه علينا، هذا القدوم محقق لكن الانتظار يبقى ليحقق الأمل الأكبر في إنقاذ البشرية من الظلم والطغيان، وأن يتمكن من أن يسود فيها العدل والإنصاف”.
ما بين العسكري والمهدي أزمنةٌ وسنوات مليئةٌ بشوق المعذبين المقهورين، سنواتٌ من الظلم والجور والطغيان، هي صفحاتٌ من تاريخٍ أراد الله فيه للأمة أنّ تتعلق بإمامها الغائب عن عينها، ليخلصوا النية في ولائه واتباعه، ويكون من جنده والمستشهدين بين يديه وتحت رايته، ولقد كان الدور التمهيدي الذي لعبه الإمام العسكري “ع” ومن قبله الأئمة الطاهرين حتى رسول الله ومن قبله الأنبياء، دورًا أساسيًا في ترسيخ عقيدة الانتظار لذلك اليوم الذي يعم فيه نور الله في أرضه وسمائه، وترفع فيه راية الإسلام والحق عاليةً وتنكس فيه رايات الجور والطغيان.
مهدي سعادي – شفقنا