شفقنا- بيروت-
محمد عبد الجبار الشبوط
من النادر ان تجد رجلا حكيما في بلد ما في زمن ما. والتاريخ لا يملك الكثير من المقاعد للأشخاص الاستثنائيين الذين يتفوقون على غيرهم بالحكمة وغيرها. فبنو ادم من الرجال والنساء ما انفكوا يتصارعون على السلطة والمال والجاه والارض ويقتل بعضهم بعضا في هذا السبيل. ومن النادر ان تجدهم يستمعون الى صوت العقل لترشيد هذا الصراع والحيلولة دون سفك الدماء وتخريب البلدان بسببه. ولئن توصلت البشرية الى الطريقة الديمقراطية لترشيد هذا الصراع فان الغالبية العظمى من بني ادم يعيشون في ظل انظمة لا تعترف بالديمقراطية ومازالت تحسم صراعاتها بقوة السيف، وما زالت كما قالت عنهم الملائكة :”أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ؟”.
في العراق الذي كان ضحية غزوات خارجية وصراعات دولية على الاقل منذ عام ١٢٥٨ لم يحظ برجل حكيم منذ ذلك الحين حتى من الله عليه برجل عربي سيد من ال محمد، هو الامام علي السيستاني، الذي اثبتت الاحداث انه رجل المرحلة منذ عام ٢٠٠٣ الى اليوم، بعد ان جعلته حكمته الفائقة يقف على مسافة امنة من الصراعات الظاهرة او المستترة التي تحدث بين العراقيين لاسباب طائفية او سياسية او غيرها. ومن خلال هذه “المسافة الامنة” كان يصدر توجيهاته وارشاداته للعراقيين الذين يقفون على شفا حفرة من النار ليجنبهم الانزلاق في دركها الاسفل. وقد نجحت ارشاداته في كثير من الاحيان في نزع فتيل الأزمات وإطفاء حرائق الصراعات على الدولة بعد سقوطها المدوي في ٩ نيسان من عام ٢٠٠٣.
ومن مجموعة ارشاداته الحكيمة، واخرها ما قاله في حديثه مع ممثل الامم المتحدة في العراق، نستطيع ان نفهم ان السيستاني يدعو الى دولة بخصائص ومواصفات يمكن ان ندعوها بالدولة الحضارية الحديثة، رغم انه لا مشاحة في المصطلح، ولا يهم ما يعجبك من الاسماء التي يمكن اطلاقها على الدولة التي ينشدها السيستاني. ما يهم في الامر ان حكمة السيستاني تقدم نموذجا للدولة يمكن ان يحقق السلام والاستقرار والعيش الكريم للعراقيين في هذه المرحلة على الاقل. ولا نبالغ اذا قلنا ان ارشادات ونصائح السيستاني هي وصفة علاج ودواء لبلد خرج لتوه من نظام دكتاتوري.
لكن حكمة السيستاني ليست وصفة سحرية او عصا سحرية ينطبق عليها القول:”وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ؛ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ”. انما تتوقف فاعلية نصائح السيستاني على الالتزام الحرفي بها من قبل المخاطبين بها. وبدون هذا الامتثال والالتزام لا تحقق هذه النصائح المرجو منها على صعيد ترشيد الصراع وبناء الدولة بناء سليما بالخطط العلمية والعملية. وهنا سوف يشكو السيستاني الى ربه المخاطبين بنصائحه بانهم لم يمتثلوا لها. وقائمة عدم الامتثال طويلة حتى بح صوته واضطر في نهاية المطاف الى اغلاق بابه دون هؤلاء الذين لم يمتثلوا لإرشادات. ولا يصعب على المراقب ان السيستاني لا يستقبل اليوم الا المسؤولين الأممين ونظرائه من الزعماء الروحيين مثل بابا روما، والفقراء من الناس.
المثير في الامر ان هؤلاء الذين لا يمتثلون لارشادات السيستاني الحكيمة، يملكون الجرأة للمسارعة في كل مرة ينطق فيها الى اعلان تأييدهم لما قال. وانا اعلم، وهو يعلم، وكل واحد يعلم، ان هذا التأييد المعلن انما هو مجرد كلام لا اساس له في الواقع، فكل ممارسات هؤلاء المعلنين للدعم والتأييد مخالفة لارشادات السيستاني، ولا ادل على ذلك من ذهاب احدهم الى خارج العراق للحصول على فتوى باعدام احد ازلام صدام، فيما السيستاني موجود في بيته المتواضع في احد ازقة النجف. لهولاء اقول: كفاكم نفاقا وتملقا فالرجل الحكيم لا يستمع الى بياناتكم المقرفة.