خاص شفقنا- بيروت-
قال الله تعالى في كتابه الكريم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وعليه فإن شهر الرحمة هذا هو فرصة للمؤمنين لتعزيز تقواهم وإيمانهم، والتقوى هي كنز عزيز، إذا ظفر به المرء، وجد فيه خيرًا كثيرًا ورزقًا كريمًا، وهي الخصلة التي تجمع خيري الدنيا والآخرة.
وفي هذا السياق يقول الشيخ قاسم المصري في حديثٍ خاص لوكالة “شفقنا” إنّ “الصوم كان عبر الأمم محطة عظيمة لإحراز التقوى، والتقوى هو الاتقاء من الشيء، ويكون الاتقاء من الشيء كل شيء بحسبه، فمثلًا الاتقاء من البرد بلباس مخصوص له، والاتقاء من الحر كذلك، والاتقاء من أي خطر من أنواع الأخطار الذي يمكن أن تحيط بالإنسان يكون بحسبها، فالاتقاء مثلًا من العدو بحسب استعدادات العدو وقدرته وتحشده وما شاكل ذلك”.
وأضاف: “الصيام كان بابًا أساسيًا وركنًا جوهريًا لإحراز التقوى، ومن خلال أن الإنسان في هذه الحياة يعيش بصراع قوي وصراع مرير مع شياطين الجن والإنس، وهذا الصراع الذي عبّر عنه النبي الأكرم (ص) بالجهاد الأكبر عندما قال: “رحمكم الله قضيتم الجهاد الأصغر وبقي عليكم الجهاد الأكبر” ، وهو مجاهدة هذه النفس الأمارة بالسوء الذي قد تستجيب لوساوس الشيطان، وهو أعدا أعداء الإنسان، والذي يحرف الإنسان عن كل أنواع السعادة في الدنيا، ويحول السعادة في الدنيا إلى شقاء وظلم وتجبر ومشاكل، فضلاً عن أنه يحرمه سعادة الدار الآخرة، وهي أعلى المراتب إلى أسوأ دركات الجحيم”.
وأردف الشيخ المصري: “التقوى هي قدرة الإنسان على محاربة هذا الشيطان ووساوسه، والنفس الأمارة بالسوء واستعدادها لتلك الوساوس هي معرفة ما أمر الله ومعرفة ما نهى عنه، ووجود الإرادة الصلبة على العمل بما أمر وترك ما نهى، بحدوده بلا زيادة ولا نقيصة، وتلك حدود الله فلا تعتدوها”، لافتًا إلى أنّه “قطعاً لا يحصل هذا الالتزام بالأمر والنهي إلا بعد عقيدة سليمة، سواء ابتداءً من التوحيد، ثم العدل والنبوة والإمامة والمعاد يوم القيامة فإنها أساس الإيمان، وبعد هذا الإيمان لابد أن يسلك الإنسان طريقة التقوى ومناهج المتقين، ليسموا بنفسه إلى أعلى الدرجات، وبقلبه إلى السلامة من الشرك والنفاق، وبسلوكه العملي في الحياة الدنيا إلى النزاهة والتقوى في أفعاله وعدم السوء للآخرين، فيكون نزيهًا عالي الشأن في جميع مراتب حياته الاعتقادية والعملية”.
وتابع الشيخ المصري: “أثر التقوى على الإنسان في الحياتين عظيم جدًا جدًا جدًا، بل هو من أسمى مراتب الكمال الإنساني، وهذا الصوم الذي أمر الله سبحانه وتعالى به هو جزء جوهري لأسس التقوى وجوهر التقوى الذي عبرت عنه السيدة فاطمة الزهرة سلام الله عليها بخطبتها المشهورة جعل الله الصيام تثبيتًا للإخلاص، الإخلاص من الشرك والنفاق، فكيف يكون الصيام الذي هو طريق إلى التقوى والفوز بهذه التقوى تثبيتاً للإخلاص، أعلى مراتب العبودية وأعلى مراتب التقوى، وأعلى مراتب السلوك الحسن للإنسان عقيدةً ونظامًا وتطبيقًا هو الإخلاص لله سبحانه وتعالى”، مشيرًا إلى أنّ “الصيام لا يوجد فيه مراءات لأحد، والصيام لا يوجد فيه مظهر من مظاهر الوجاهة لأحد، الصيام يحصل بمجرد النية الصادقة بين المرء وخالقه، بينما سائر العبادات قد يشوبها كثير من الأشياء، فالحج مثلًا أو الصلاة، أو كل الشعائر الدينية الأخرى، قد يكتسب الإنسان منها أمام الآخرين سمعة حسنة وإن كانت هي مطلوبة، ولكن نفس وساوس الشيطان قد يجعل هذه السمعة جزءًا أساسيًا من ذاك الفعل، أما الصيام الذي هو بمجرد أن لا ينوي الإنسان الصوم بطل صومه ولو بقي بلا طعام ولا شراب، فهي نية صادقة خالصة، وتمرين قوي بين الإنسان وخالقه في هذه المسألة، وبالتالي يكون تثبيتًا لحالة الإخلاص والنية الصادقة القائمة في القلب دون سائر العبادات، أو أسما من سائر العبادات، وإذا ما وصل الإنسان إلى هذه المرتبة من الإخلاص، سما بنفسه نحو كمالها، وبقلبه نحو سلامته، وهذا لا شك ولا ريب يعظم الخالق في نفسه، فتصغر جميع الأشياء في عينه”.
وقال الشيخ المصري إنّه: “إذا وصل الإنسان إلى هذه المرتبة، لا شك ولا ريب صغرت كل مسائل الحياة الدنيا أمام عينيه فقط عن المتقي المخلص لله سبحانه وتعالى، والذي هو على خطر عظيم، الناس كلهم موتى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى الا العاملون، والعاملون كلهم غرقى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم، فمن وصل إلى هذه الدرجة من الإخلاص والتقوى، وصغرت سائر الأشياء في عينه، لا شك ولا ريب أصبح إنسانًا سويًا، رفيع الشأن ذو صفات حميدة، بل من أسمى الصفات الحميدة الذي لا يمكن أن ينزل إلى مستويات سيئة في هذه الحياة الدنيا، سواء على المستوى الفردي، أو الأسري، أو الاجتماعي، فيكون الصيام الذي هو تثبيت للإخلاص أحد أهم مسالك التقوى، ومناهج التقوى، والذي يسمو الإنسان فيه إلى درجات وصفه القرآن الكريم (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65))، إلى أن يقول تعالى (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا)، لذلك فإن هذا الصيام هو طريق هذه التقوى، وهو أهم أسباب الإخلاص بين يدي الله سبحانه وتعالى”.
مكتب لبنان| شفقنا